جمالية الومضة الشعرية والصورة الفنية المدهشة
الشاعرة الدكتورة أسمهان بدير أنموذجـا
أياد النصيري--20-7-2017
******************
الشاعرة الدكتورة ((أسمهان بدير))ذات التكوين العلمي (علم الأجتماع )أرادت أن تجد الجمال في غير العلوم التجريبية فخاضت مغامرة الشعر والرسم والموسيقى باقتدار--رغم انها دكتوراه في علم الأجتماع و الفلسفة وخريجة جامعة السوربون— فكتبت الشعر منذ أكثر من ربع قرن من الزمن وانتجت عدة دواوين شعرية ودراسات أدبية وثقافية وعلمية ومحاضرات عديدة ولديهااكثر من(32) مؤلف
تكتب قصيدة الومضة بإتقان مدروس جنبا الى جنب كتاباتها للشعر العمودي-وشعر التفعيلة والنثر-الا أن إنها عند كتابة الومضة الشعرية
تعطي لها جمالية وخيال واسع تتركه لدى القارىء حيث الفضاء الواسع واللغة العميقة والمفردات الجميلة
تقول الدكتورة بشرى البستاني(، قصيدة الومضة ، لحظة جمالية ، قصيدة مكثفة مكتفية بذاتها تجسد موقفا ما وتعبر عن حالة بسيطة اومركبة أو إشكالية وجاءت بتسميات عدة منها ، اللقطة ، التوقيعة ، القصيدة المركزة ،القصيدة القصيرة ، اللافتة ، الملصقة وو.. ، لكن تسمية الومضة هي التي كان لها الحظ الاوفر من الشيوع ، ربما لتضمنها المعنى البرقي الخاطف
*********************
أيها الجسد الإلهي
ماذا يحدث لو إنك غفوت
وتركت هذا النبض الأحمق
يتخبط في ليلك الأبدي
حيث تكبو الروح على بعضها
وينفتح المدى على
متاهات القدر
*******************
إن نص الومضة،هي قصيدة النضج والدهشة فى أنقى معانيها بل هي اكتمال المعين الشعرى وهي قصيدة الصمت الإيجابى وميض برق خاطف في فضاء النص الشعري. تعددت آراء النقاد حولها، فهناك من يرى، بأن هناك اشكالية تتعلق بمسألة التحقيب فيما يخص القصيدة القصيرة حيث ان هذه القصيدة ليست حديثة تماما وهي ليست الحلقة الاخيرة في تحولات الشعرية العربية بينما وجد من يقول بأنه لا يوجد شكل خاص يسمى بالقصيدة القصيرة، أو الطويلة، فالقصر ليس سمة من سمات الحداثة. وبينما يقول آخرون بأن القصيدة القصيرة، هي وليدة عصر المعلوماتية، ذهب البعض الآخر إلى القول بأن القصيدة القصيرة ليست اختراعاً عربياً. وهناك من رأى في الومضة بأنها قصيدة المثقفين ولا يمكن لأنصاف المثقفين أن يتعاملوا معها
*******
أنت وحدك
الذي يفتح نافذتي على
المدى
حيث تحلق الروح
وينبض الجسد من
جديد
********
ويتنامى الشعري لدى الشاعرة الدكتورة((أسمهان بدير)) من موقف الانفصال الذي يولده القلق. إنه انعتاق الذات عن كيانها الجاهز، والخروج إلى فضاء الحرية ففضاؤها التي تحيا فيه عارٍ يغطيه حرير، فضاء يريد أن يزيل عنها ما يسبب لها العراء، ويكسوه بما تحب. ولهذا الفضاء علاقة بالكيان الحقيقي للذات المسكونة باللامحدود، بالظمأ إلى كشف المجهول في الذات، لا في ما دونها لذا نجدها أنها تنظم من موقع الحيرة، من لغتها، من ذاتها، إنها تقول ما لا نعرفه عما نعرفه بلغة مغايرة. إنها لغة الفضاء المجهول في المألوف، لغة المتضادات التي ترى الكون مبنياً على أساسها
ويمكن النظر، إلى قصيدة الومضة، لدى الشاعرة((أسمهان) ضمن هذا الإطار - تحديداً - حيث إن كتابتها تأتي متكئة على إرث خاص من التجربة فهي لا تأتي مجرَّد طفرة، بل إنها نتاج رؤية واضحة للحياة والفنِّ كما أنها تجيء من خلال إدراك مسبَّق، من قبل الناص لوظيفة النص، مادام هكذا نص، يعدُّ الأصعب في تجربة الشاعرة المتمكنة، حيث لهذا النص أهميته بالنسبة إلى المرسل والمرسل إليه، في آن حيث تقول
*********
ذهول
إنه ذهول هادىء
بساتين متناهية بيضاء
يعبر القلب عليها
مثل جياد متعبة
*************
ومن يتابع تجربة الشاعرة (أسمهان) يجد أنها كتبت في مجال الأشكال الشعرية الثلاثة، واستطاعت أن تنجز خصوصية كلِّ شكل شعري، ضمن شروطه الجمالية،وإن كان هناك أمر لا بدَّ منه، حيث تمكنت الشاعرة من كتابة قصيدة العمود، إنما يثبت دعامات تجربتها، وتعمقها، وهي تكتب قصيدة التفعيلة، بل إن امتلاك الأدوات الكتابية، في حقلي هذين الشكلين، يجعل قصيدة النثر، في حال فهم طبيعتها، محققة لشرطها الإبداعي، على صعيد اللغة، والإيقاع، ورسم الصورة، وغير ذلك، مادام أن التنوع - هنا - دليل غنى، ومعافاة، بالنسبة إلى التجربة الشعرية العامة للشاعرة، وهذا مانجده في جمال نصها
********************
قلت لأشجار الجدول
أن تتعرى في الميعاد
قلت لها
عليني من خمرة عريك
حتى الهذيان
وإسقيني موتا وحياة
فاشتعلت في أوردة الشجر الأوتار
وأسرت في حبي اللهفة
هامسة
لدوار الحب العائد
أنياب أظفار
ودوار الموت--المحيي
أغنية من نار
مذ باح القمر الملتاع
بشكواه
لأشجار الصبار
ورأى دمها يمتاح
الرعشة من موت الأحياء
***********************
إن الإيقاع الذي تركز عليه الشاعرة في سائر نصوصها، يظهر - كذلك - في نصوص الومضة، كي تكون سونيتات غنائية، توازي غنائيتها سائر الدهشات الأخرى التي تنصرف إلى تقديمها، الواحدة منها تلو الأخرى، في تساوق كامل، وهو ما ينم عن عمق التجربة، والحساسية العالية، بل والمقدرة على تجديد الروح، مع كل نص جديد
***********
تتثاءب منحيات
الظلام في شراييني
تستيقظ من
الخدر
العائم في الدم
لتحرق فوق شفتي
القمريتين
كل قوانين القبيلة
**************
ما يميز شعرية القصيدة عند الشاعرة ((أسمهان بدير) الرؤيا الجمالية المقتنصة من الفكر الجمالي المبدع الذي تملكه الشاعرة في تخلق الرؤيا المؤثرة بفواعلها الرؤيوية وطاقتها اللغوية الخلاقة، فالقصيدة لديها تقتنص جماليتها من شعرية الصورة، وبداعة التشكيلات اللغوية المبتكرة في إصابة منتوج الرؤيا الشعرية في الصميم
لم يقتصر اشتغال الشاعرة (أسمهان)في هذه الومضات الخاطفة وحسب، بل ذهبت بها إلى أبعاد بصرية أضافت لنصوصها جمالية، خصوصاً أنها ومضات مختزلة ومختصرة لذلك تخرج بتنويعات مختلفة، حيث أتت كدفقة شعورية واحدة متتالية على شكل قصيدة يلحق كل شطر فيها الآخر لتكتمل الفكرة التي غالباً ما تكون في نهاية النص وبهذا يمكننا ان نطلق على نص (اسمهان) في هذه الومضات بالنص الدائري، إذ يلتف على نفسه ليعطي المعنى المراد في نهايةالنص
************
عندما تسكر البواخر
يمتد الخدر في شرايين
الأرض
تزغرد الأمة
وتبكي القصائد
على صدري
*************
تمتاز قصائد وومضات الشاعرة الدكتورة (اسمهان بدير)بالحدث العميق والرؤيا المكثفة للمشاهد والرؤى المتحركة أو المنزلقة في نسقها مما يدل على حرفنة جمالية بهذا الشكل أو ذاك ،دلالة على الاستثارة والتركيب
-إن لقصائد الومضات الشاعرة (أسمهان) قيمها المؤثرة في تحريك حساسية القارئ، من خلال دهشة الصور والاستعارات والفيوضات الوجدية التي تبثها في الأنساق بين الفينة والأخرى،مما يجعلها غاية في الرقة والحساسية والجمال
**********
أريد أن لاتنتظر
المستحيل
أنا —وأنت
فخ من العشق
هواك مظلة
وأنا أحب المطر
***********
ويبقى الرهان الأكبر لمثل هذه الومضات هي قدرتها التأثيرية في وجدان المتلقي،وخلقها أثراً تردّدياً كبيراً في داخل المنظومة الحدسية للقارئ، وهذا يتطلب منها امتلاك قدرة على الإدهاش، والاقتصاد في تكوين بنية النص من أدوات تعبيرية قليلة،دون الإسراف في العمل اللغوي الذي ينفر المتلقي من الفكرة،ويشتته بعيداً عن غرض القصيدة،ولذلك تحرص هذه الومضات أن تكون في غاية الحرص على تماسك بنيتها،كحرصها على بقاء وهج فكرتها