رواية
الياقوتة السوداء
موسى غافل الشطري
القسم الخامس و الأخحير
وقبيل فعلة (حرب) كان دماغ سعده كأنه قد أُغلِق عليه و كأنه تحول إلى أداة معطوبة. فلم تتبحر في الأمور و أبعادها ، وفي الأشياء التي تدور حولها إنما انساقت مع ما يعترضها من أحداث و منغصات حسبما تراها بعين أولئك الذين هم من أهل الله .
غير أنها في قناعتها فيما بعد ، حيث قويت قدرتها على التمعن ، و لاحت لها الخسارة فادحةً ، دون أن تكون قد استعدت ، للاحتراز . دون أن تتصور أن هناك ما يستدعيها : أن تكون يقظة من الأُمور المفاجئة .
فتبلورت فطنتها في وقت جاء متأخراً لضرورة الحذر مما يصادفها و يفاجئها ً . فظلت تطرح أمام أي موضوع كلمة : ( ماذا يعني هذا الطلب وما الذي يكمن وراءه؟ ماذا يعني هذا السؤال؟ لماذا قيلت تلك الكلمة؟ ما المقصود باستدعائها ؟ ) .
مثل هذه التساؤلات التي تطرح ، تخشى أن يكون ثمة أمر مبيّت خلفه. إنها لا تريد لنفسها أن تكون رخيصة إلى الحد الذي جعلت الصدفة توقعها في استلاب أعز ما كانت تقلق من أجله أُمها . هي تكره تلك الحالات التي تحاول أن تظهرها بالخائبة القاصرة ، لا تمتلك ما يمتلكون . وكأنها لا تفقه الأمور بسبب كونها من منحدر يتصورونه متدنياً . ولو كان ذلك عين الحقيقة: لماذا تبدو قادرة متفوقة في إجادة صنع الطعام و الكلام و غيرهما ، و بما تختلق من نكات تضحك الآخرين حتى في المدينة و التي تستحضرها ضمن سياق الحديث؟
و رغم حداثة سنها .. لماذا يصل بها الأمر ، حين يستلطفونها و تمزح ، لتجعلهم يستلقون على ظهورهم من شدة الضحك مما تتصرف أو تقول ؟ أو حينما تخدع أدمغتهم النائمة، فتجعل من نفسها لا تميز حتى بين الألوان؟ ومع ذلك تستدرجهم إلى حيث تشتهي من الأمزجة ؟ حتى تستدعيهم أن يضحكوا على غفلتهم .
أي نعم : هي قادرة أن تضحكهم و تبكيهم . قادرة أن ( تاخذهم للشط و ترجع بيهم عطشانين ). لماذا تُغْلَبْ على يد إنسان ما كانت تنظر إليه إلاّ بعين الاحترام و التقديس؟
أَهو سَرًقَها عبر ظنها الذي انطوى على ثقتها فيه ؟ هل هذا ما استقدموها من والدتها لأجله؟ هل الأشياء التي تتقاتل العشائر من أجل صيانته تجري إباحته بأبخس ثمن ؟ أهي لأنَّها سوداء ؟هل هي رخيصة إلى هذا الحد؟ إذن لماذا ضايقتها أُمها وهي لم تزل يعوزها أن تعرف ما هو الذي يجب أن تحتشم من أجله و كادت الأم أن يجن جنونها؟ هل تلك المحرمة هناك .. مباحة هنا ؟ ولا قيمة لها ؟ من فعل هذا لكي تكون هكذا ؟
و ما بعد الفعلة أمكنها أن تبني استنتاجاتها بطريقتها التي تمكنها أن تكشف وتعري الأمور حسب قدرتها على الفهم و معرفتها على نحو تبدو أكثر شكاً حتى بما هو لا يحمل ما يثير سوء ظنها . و هي كسرٌ بجمع بحاجة أن تكون ( مْفتشة عيونها زين . و إذا كانت عيونها مفتشه عدها سلطة تحمي روحها ؟ ) .
فهي الآن .. لماذا انخدعَتْ بهذا الرجل الذي لا يعتمد على عقله ( كما تراه الآن بطريقة فهمها للأشياء ) ؟
إنها أدركت الأمر بطريقة فهمها المحدود لما يجري هنا من أمور ؛على أن هذا الرجل مخلوق آخر تماماً عما ألفت عنه من ظنون . رجل راكبه الشيطان . الآن فهمت من هو . فهمت قدراته على التلفع بالخداع . و الاستحواذ على حق غيره . بطرق حتى وإن كانت نجسة؟ لكن سعده ظلت تُرْغَم على إعطاء تنازلات متلاحقة . تنازلات اختطاف . في وقت لم تحسب لمفاجئاته حساب . كأن هذا الرجل سرعان ما ينشق الجدار فيتماثل أمامها . ثم تتحول هي إلى خرقة تطوى و تنفرش ، ووو ... و تنهار تماماً . و يظل الإحساس بالمهانة البكاء يعصفان بجسدها . أية محنة قاسية امتحنت بها ؟
أيرضى رب العالمين بما هي عليه من حال ؟ من امتهان ؟ ألكونها عبدة من عبيده ؟ و استمرت بالبكاء .
و كل ما يتزاحم في رأسها مما استوجبته السقطة التي لم تكن لها دخل في وقوعها ، جعلها تقترب إلى حد كبير من إدراك ، ما لم تكن قادرة على التكهن فيه . فهي أساساً لا تحتاج إلى كبير عناء للتفكير ، أكثر من تداعيات الأمور الجارية ، دون احتياجها لصرف ذهنها و إجهاده .
أيرضى رب العالمين على ما جرى . و أن تظل حاضرة وقت الطلب ؟ و أن تكون رأس ضمن الرؤوس التي تُمتلك من عبيد الشيخ ؟ ما شأنها و ذلك ، إن كانوا نعاجاً أم معزات؟
و لقد أدركت ذلك ، حينما قالت إحدى زوجات الشيخ عن أحد الشيوخ :
ــ كم رأس يملك الشيخ فلان من العبيد ؟
ما ذا يدلل هذا ؟
و كانت تثير مثل هذه التساؤلات وقت خلوتها ، التي تلجئها للبكاء ، إلى حد تحس بأن كبدها يكاد ينفطر . و كأن هذا البكاء الذي تنفرد معه يغتسل فيه دماغها ، و يرتاح فيه فؤادها ، حتى يكاد أن يكون شيئاً يتلألأ من خلفه كل ما هو غامض . لذلك ظلت أكثر انتباهاً. و أقل ابتسامة . و ارتسمت تلك التقطيبة بين حاجبيها .
ـ يا ظالم . و الله .. أنْذِرْ نِذِرْ لوجه الله من يِنْهطر . نذر لوجه الله ، إذا عند امي بخت ، وانه اليتيمه التايهه الما عدها والي . نذر من كون الله ايهطره .
إن ما حدث و يحدث لســعده جعلها في قناعة لكونها تغْتصب غيلة. من ثم لماذا يحسبون عدّها بطريقة عدّ رؤوس الحيوانات ؟ أَمِنْ أجل هذا يتصرفون فيها على هواهم ؟ ويتصرفون معها بطريقة قد يترفعون أن يصنعوه مع حيوان كما صنعوه مع الوصيقة سعده ؟
هل يتصورون والدَيْ خلف عندما هبطا حتى بحيائهما ــ هما غبيان؟ و ليست تضحية جسيمة من أجل رب نعمتهم؟
لماذا تقبلت سعده بكل ارتياح و شعور بالتضحية : أن يتم انتزاع ملابسها ، لكي تُضحكهن من أجل شمران؟ لماذا لا يعطى هذا حق قدره ؟ أتظل تدفع الثمن لقاء اللقمة السوداء ؟
( يا حيف على عِلِمْ او فِهِمْ (فدعه) ، على هذا الرغيف الذي فرحت بيه حتى تتهنّا بيه سعده . ألف يا حيف ) .
كل تلك التضحية و السخاء: قد أُتيح له أن ينقلب رأساً على عقب و يستلب عرضها بفعلة الشيخ الشنعاء و بتلك البساطة. إذن كم هي رخيصة هنا؟
إنها تدرك وقوعها في إحبولته . لا يمكن انتزاع نفسها من شعورها بوطأة تلك الهفوة ، وبأنها رخيصة جداً . أما أن تقبل بتجاوز واقع هبوطها ، لكونها ، عَبْدَةً مستباحة لمالكها ، وإمّا أن تلجأ إلى باطن النهر و تنهي حياتها الوضيعة . تماماً كما حدث لبْعيو أن يموت غريقاُ. هل سعدت أُمها لكي تشبع بطنها باللحم ؟ حتى تكون نهايتها أتعس من نهاية بْعيو ، عندما مات حتى تذوق زوجته اللحم ؟ و في نفس الليلة نسته القرية بكاملها . و استمر الرقص و الغناء . و لم يتفوه عنه خلف بكلمة واحدة عند عودته ،( يتصور خلف هو مو غريج . موغاط لحد عيونه ، و غركان من زما.........ن أو شابع موت . عمت عينك خلف ) .
وفي كل الأمور التي قلّبتها رأت من الغباء أن تضحي بنفسها مرة ثانية . لكن متى تنتهي محنتها ؟ (هذا أمر بيد الذي يصفيها . ياهو اليصفّيها غير رب العالمين ؟ ما يشوف ؟؟؟ شنهي المْلَهّيته عن شوفة هاي و غيرها ؟)
في مجرى الحياة التي بدأت تمارسها ، في هذه الدار، ظلت الأمور تعطيها رؤيا واضحة و ذكية . وأحياناً هازئة بما يحيط فيها . فهذا الرجل البطين المقرف ، يمكن أن يوصل إلى دماغها بما يمكن أن يعني لها : على أنها ، كمسلوبة إرادة ، واقعة تحت هيمنة لا تتحكم هي بأية نزوة تفرض عليها .. هي فقط تمتلك حقها في إدراك ما تتعرض إليه من استباحة. و أن تعرّف نفسها .. بعنزةٍ لا قدرة لها على ستر عورتها . هذا هو الذي بُصِمَ به مجرى حياتها دون أن تتردد في الحكم على ما هي عليه من نتائج لا يمكن أن يبارح ذهنها.
وفي استضاءة كل ما يمكن توقعه ، أن تستنتج : إن الحياة هنا تمشي على أساس غض النظر عن عورة ما يجري. فبدل أن يكون الناس على بينة مما يحدث في الخفاء، وأحياناً من تحت الأردية ، ربما قلة من نسائهم أو كثرة هي لا تدري. فإنهم يغلقون أدمغتهم لتقبل ما يعيشون على ما اعتادوا عليه . أو يكبحون إدراكهم لكي يتقبلوا طريقة هذا الذي يجري . أو هم لا يمتلكون القدرة أن يعرفوا : لماذا أصبح هذا الرجل دون غيره، مالكاً لكل شيء في هذه الأراضي الشاسعة. وفي هذه الأكواخ ، و في استحقاقات أشخاصها ؟ البخت .. بخت ابوه .. بخت جده . إي هاي . . هيه .
لماذا يبدو الناس يتقبلونه كشخص صاحب بخت ، و من أصول و فصول ؟ بالولايه ما موجود من هذا النوع . يعني بس السيد ابن رسول الله ـ و هذا ما لم تعرف سعده كيف تعبر عنه ـ حتى لو كان غبياً فاسقاً ؟
و هي أيضاً لا تعرف كيف تعبر عن : إن مثل هذه الأمور لم تطرأ على بالهم بحيث يتصورون أنها بحاجة إلى إصلاح . لا يوجد أحد يشخص هذه العلة . وربما لم تخطر ببال أحد . بل ان أدمغتهم لا تقتحم مثل هذه المتاهات . و لم يعوا : أن ما يحدث لهم ، إنما هو نوع من المَذَلّة . مثل هذه الأمور لم يُطْرِها أحد أمامهم . و حتى لو طرأت فسوف لن يفهموها. و لسوف يصذُّون عنها .
وحتى لو فهموا ، فسوف لن يجدوا إجابة واضحة لذلك فيجيبون دون مناقشة ، على أنه صاحب بخت فيختمون تساؤلهم الذي لا يعثر على جواب بالقول :
ـ إحنا ابّختك مْحفوظ و بخت اهلك .
كانت سعده هناك في المدينة ترى التجار وحتى منهم اليهود و الصابئة ، الذين يتعرضون للمضايقة والاستهزاء، يتقبلون ذلك بصمت. تراهم يعتمدون في قوتهم و نفوذهم و نمو أملاكهم بحنكة عقولهم . أما هنا فإن ( حرب ) تكمن قوته في أشيائه الدنيا . في مقدرته هذه .
ـ لو خلف سوّاها وي وحده من نسوانه .. يجوز ؟
لكنه سوف لن يقدم على فعل مثل هذا . على الأقل . وفاء لولي نعمته. أوقد تحمل من صلبه ، ويكون اللون اللعين هو .. هو . الذي سوف لن يتمرد و يتخلى عن جنسه. عن نسله التي ستلده تلك الزوجة .
أما سعده .. لو حدث لها و أن تَلِدْ طفلاً من نسل ( حرب ) فلا تدري إن كان خلف يمتلك الشجاعة ويثأر لنفسه. أو على الأقل يتساءل بغضب :
ــ سعده هاي شنهي ؟ هذا الطفل مو من دمْنا و لحمْنا .
أو يتقبل الأمر بالطريقة التي على سعده أن تخضع لتقبل مهانتها تلك . أو تُقتل و ينتحر هو ، لو امتلك خلف قليلاً من الكرامة . تماماً كما فعلها بدر بعد أن قتل شقيقته .
يجوز بدر شاف مالها معنى ، بعد هذا الذي حدث أن يبقى حيا !!!! يجوز . و إلا لماذا انتحر ؟ ألا يقولون غيرته على نفسه الذي أهانها ( حرب) دفعته لغسل العار ؟ فغسل عاره و انتهت القضية بعد ذلك لماذا ينتحر ؟ هي لا تدري . هل يقدر خلف أن ينتحر ، أو على الأقل يشرد و ياخذها بعيد . و يروح بيها لواحدة من الولايات البعيدة مثلاً .
لقد احتقرت هذا الزقاق الذي أسموه بيتاً، بسبب ما يجري فيه من انحراف في افعال شائنة . وأغلب من يسكن خارجه لا يشاهد سوى الجدران العالية . أمّا خلفها فهي مُغلّفة بحصانة حظه و بخته .
كم حقدت على نفسها : أن أوهمها حِسْنُ ظنها من أجل تلك اللقمة الزقوم التي تبرزها و تلقيها في اليوم الثاني في الخلاء ؟ بتلك الرائحة الكريهة . كم خُدعت هي وأُمها جراء ذلك ؟ فتصورت قدسية هذا الرجل الذي تعرى وعرّاها و بانت متهتكة . و هو لا يعطي ولا يمتلك أنظف من تلك الفعلة. ولو فرضت سعده وعادت لوالدتها ، ما هو العذر الذي ينبغي أن تصرّح لها به ؟؟؟
إنها مشكلة ينبغي على سعده أن تتحايل لكي لا تمر و تلتقيه. لا تملك وسيلة غير هذه . و أن كانت لا تجد عذراً يقنعها : إنها لم تكن بعيدة عن بيته ، و في متناول يده .
لقد كانت أُمها قد نغّصت عليها الحياة ، خوفاً من زلة هينة يبديها أحد أبناء العائلات في المدينة التي تتردد هي وأُمها عليها مخافة أن ينظر إليها مجرد نظرة عين ليس أكثر .
عجبت من هذه الأم أن تكون ليست بعمياء النظر فحسب ، بل عمياء قلب و بصيرة. وثقة منها بالرجل البخيت و خلف . لِمَ؟ لأنها شاهدت خلف طويل عريض و رأسه كبير ،عجبت أن توصيها بتسليم قيادها لامتلاكها من قبل الشيخ قبل زوجها . و حتماً ما كانت تقصد أن يُعرّيها . ولكن هذا ما حدث و يحدث .
ما درت بحقيقة ذلك الامتلاك : كم كان مخزيا ً؟ جعلها تخشى أن تصير أشبه بفراش يتبادلان امتلاكه بالتناوب . كم كان مخزياً أكثر بكثير من نظرة صبي أو شاب من أبناء المدينة؟ ربما كانوا لا يقصدون ، و هم فعلاً لا يقصدون سوءاً أكثر من المزاح وليس أن يطأ جسد سعده بجسده؟ و بكت بكل حرقة .
كانت تلجأ للبكاء ؟ و كأنه ولي حميم . كم وجدت نفسها ضعيفة ، حزينة ، تائهة وسط هذه المحنة ؟ تائهة في أرض مقفرة ليس لها (لا آن و لا ودان ) . أين الدليل الذي يوصلها إلى مكان آمن ؟ لا يوجد .
يا ليتها لو فعلت ما حدث لبْعيو و سينسى الجميع ميتته لكنها سيطرح عنها سؤال ، لو فعلت مافعله بعيو . بل أكثر من سؤال .ما هو السبب ؟ ما الذي وراء انتحارها؟
و استمرت بالبكاء .
ـ ماكو هطرة الله .. هطرة بنادم ؟ ماكو؟
* * *
سعده منذ ما حدث ذلك الذي حدث معها ، تخلت عن مراقبة (حرب) . ما الذي تبتغيه بعد ؟ كل شيء صار مفهوما . بل إنها لم تجد شيئا ذا قيمة يستدعي أن تطل لأجله من وراء الحاجز . أصبحت الأمور واضحة مثل الشمس . كانت تتصوّره شيئاً آخر . بحيث أنها تشعر بالخجل كما لو أنها هي التي أباحت شرفه . و في أعماق الليل الذي أبتلع خلف بكامله هو و حصانه في واجبات الحقل ، ظلت ترعبها اللحظات التي تمر و لا تستطيع حزرها . وكررت سؤالها:
ــ يعني .. إذا هي وصيفته ، لازم تكون ملكه ويتصرف بيها مثل ما يريد ؟ معقوله ؟ معقوله تبقى ماشيه ويّاها هاذي العادة السوده ؟ ياريت عدها تجربه و تفتهم . يمته هي صارت و كبرت حتى تفتهم شكو ماكو ؟ يعني هي ما تعرف امور الدنيا . الزين وين ، و الشين وين . بعدها طفله ما عدها درايه .
ظلت سعده تبكي بحرقة . فلم يعد بوسعها أن تهتدي إلى حل مناسب . يعني هي تحتاج إلى عقل أكبر من عقلها . إلى أمها . إلى واحدة لا تفرط بسرها . من هي هذه التي تشكو لها محنتها ؟
مرت الأيام و سعده يتكرر خوفها ، أن تُرغمْ على هذا الواجب الذي قد يفاجئها دون أن يكون بحسبانها حتى خشيت أن تتحوّل كواجب فرش الربعة . وعجبت من تحذير هذا النجس ، أن تتحاشى رؤيا أحد لها و هي تخرج من هناك .
و اجتاحتها عاصفة من البكاء المهووس . و أباحت لقلبها أن يتمادى بامتلاكه إرادته : أن يسرف في هذا السيل المجنون من البكاء . فالبكاء وحده الذي تستطيع أن تستحم فيه بكامل إرادتها ، التي هي ملك صرف له . على أن تنفرد معه دون رقيب . دون أن تتيح لهذا الرقيب أن يسألها : لماذا تفعل هذا ؟
(هي غدت فراشاً . لكن أسود . مثل حظها . مثل لونها . فراش و ينفرش . بس عنده راس تعبان .. و يعرف هذا زين و هذا عيب ، وهذا ... و ( تونّس ). كل الناس يسمّون سعده ياقوته . سعده دمها خفيف سعده لقطة . سعده فلته يا خلف. لكنها بلْعتها هاي المصيبه بالسر ، بالظلمــة . و حتى ( يتْونّس ) الشيخ ، و تطلع من نفس المكان حالــها حال النسوان . الزينه و الشينه . من هو الذي يعلم بهذه الأمور الخفية ؟ قابل من صنع إيدها ؟ و لازم أحد الأيام يعرفن نسوان الحوش : سعده ليش تتأخر هناك؟ ) .
طالما مزّق صدرها ذلك و أوجع قلبها . طالما حسسها بالمهانة و تدني القيمة . و بانها تُرغم أن تستلقي لكي يجري اغتصابها ، لا لشيء سوى ، لكي تهان ، و تدفع ثمن اللقمة الزقوم التي تبتلعها .
(لكن . . و لو هي ما راضيه عن نفسها - ما راضية حيل عن نفسها - بس هي تعرف زين ، و أكثـــــر من كل وحده نضيفه ، و لو هي غشيمة ، و طفله ما عدها تجربه . هي طبعاً ما تريد تعتبر نفسها نظيفه . لا .. تفتهم أشياء ، و أشياء مخْفيّه ، و ملفوفة تحـت العباية . و يجوز البعض ما يعرفها . ليش ؟ لأن حظهم عدل . مو مثل حظ سعده نايم بالحماده . سعده....الثوله , المطيّة، طايحَة الحظ . بنت الغبره، أُم ثوب المسرود من حدر عجزها .
أول شيء عرفته : هذا النجس عريان مثل ما خلقه ربه . أي نعم .. عريان .. عريان . آ.....خ.....تف على ذاك الحظ ) .
لكنها في الآونة الأخيرة عند ما تحرج برؤيته من بعيد فأنها توشك أن تتهاوى . و بعد أن يختفي و تسترجع سيطرتها على نفسها تلعن حظها من هذه المهزلة التي وقعت فيها .
في الأيام التي قضتها بعد الذي فعله معها ، ظلت تنتبه للجدل و الكلمات الجارحة التي تطلقها زوجته صبريّة ، كم تغيرت صورتها في ذهن سعده و كبرت بعينها؟ . و يتَضَّحَ لها جدوى تسلله في الليل ، يذهب إلى كوخ ( رشّادة ) الذي لا يبعد كثيراً عن الدار .. و يستدعيها لملاذه الخاص ، وهناك يجري مع ( رشادة ) كما جرى معها . وربما كان يمارس علاقته معها قبل مجيء سعده . ظلت تنصت بكل اهتمام للجدل الذي يدور بين نسائه ، عدا( صفيّة) التي لا تلتقي معهن . وربما كانت الحضرية مقتنعة أنه متحضر في حسن تصرفه . وهي مقلّة بمكوثها في الريف. وما أن علمت بعلاقته بنجمة صاحبته البغدادية ، حتى انقلبت الدنيا على رأسه .
مضى وقت على زواجه من الحضرية كان قد جلب تلك الصورة للمرأة البغدادية ، و ربما أراد أن يوحي لزوجته مدى علاقاته في مدن أخرى التي يتردد عليها باستمرار ، و يرسل لها ، كما علمت ذلك سعده ،صفائح السمن الحر و الرز و السمسم و الملابس ، و القطع التي طرزتها و خرّمتها سعده آنذاك ، بسيارة خاصة . وقد علمت سعده ، من ثرثرة زوجته صبرية ، أنه عندما ينام يضع رداء "نجمه" على وجهه ويبكي .
من الذي أوصل ذلك لها ، لا تعلم . وما أن اكتشفت زلته تلك ، حتى تسبب ذلك بأن تهجره الحضرية و تعود للمدينة . وكان من الصعب عليه أن يلقاها . كانت ترفض أن تقع عيناها على وجهه. وقالت له من خلف الباب الخارجي دون أن تسمح له بالدخول :
ــ ما كنت أتصورك رديء دنيء حتى على العاهرات . لما زوَّجْني أخوي إلك كان يعتقد انت نظيف . ابن أصول وفصول .
كانت تخاطبه من وراء الباب الخارجي . وبعد محاولات مضنية عادت على أن يرفع صورة عشيقته و يقطع صلته بها وإلاّ ستهجره للأبد . كما تقول ( صبرية) بيد أنه :
وكما تقول سعده ( إل بيه ..بيه ، ما يْخلّيه) شال الصوره من غرفة الحضريه و حطّاها بالديوانية و القفل عنده .
كثيراً من السلوك الشائن ،أصبحت سعده على بيّنة منه. إنها تبدو أشبه بالشامتة : أن تتضح الأمور لديها و تطّلع على قيمته الشائنة . و أن تكون إذناً صاغية لكي تتلقف سقطاته .هل يعلم خلف بالسلوك الذي يمارسه عمه الشيخ ؟
من المؤكد أنه يعرف . فما دام يذهب إلى بغداد و يحمل معه حاجياته ، معلوم أن خلف يخفي عنها مثل هذه الأمور . ربما يرضيه الأمر ولا يعتبره معيباً .
تعجبت كيف كان يعلّق صورة " نجمه" ، و قد شاهدت سعده ، عند ما استدعائها من قبل خلف لتنظيف الديوانية ، صورة تلك المرأة ذات الملامح المشبوهة . وقد تكون علاقتها غير قاصرة على حرب . ومع ذلك كان لا يتحرج من تعليقها أمام القاصي و الداني .
رأت صورة تلك المرأة . ذات أنف كبير لا يناسب وجهها و لها نظرة وقحة ، أو هكذا تتصورها. وأُصيبت بالرجفة . من تلك الملامح الخشنة كملامح الرجال ، وتوصل عقل سعده الدائب على التحري : أن شكلها يوحي بالعهر .
كانت تلف شعرها بشال و تتعصب بعصابة . وعندما تُراجِع عقلها بشان تلك المرأة فإنها من غير اليسير أن تتقبل هكذا نساء . ويوجعها أن تنجر لهبوطهن .
هل هي تختلف عن هاتين المرأتين أم هي أيضاً دخلت ضمن سلوكهن؟
في قناعتها : أنها لا تنتمي لهذا الصنف ولم تكن ممتهنة لهذه المهنة. إنها فقط لا تدري كيف جرت الأمور معها و جرى الاستحواذ على عورتها. وإنها تعتقد بكونها مازالت رافضة لوضاعة حرب . وعجبت كم هي تمقت أمثال " نجمه" وحتى" رشادة" .
ذات ليلة و( رشادة) تتسلل من الدار ليلاً ، عند غياب صفية الحضرية نادتها سعده :
- رشاده...
اقتربت رشادة دون أن يبدو عليها أي ارتباك :
قالت :
- رِحت أُنظف حجرة عمي الشيخ .
ردّت عليها سعده :
- عما اْلعمى هاي العيون الوكحه . بهذا الليل ؟ أكو تنظيف بالليل ؟ هو هذا واجب واحد من غير عائلته ؟ خفا هَلْ طول وِنْهِدَرْ . وين تركتي حسون ؟
قالت :
- بالزرع .
بعد تفكير طويل ورشادة مطرقة صامتة فكرت سعده :
- ( مسكين رجلها يكسر الخاطر ؟ بهذا البرد و المطر يهطل عليه ؟ أوهاي رايحه بصفحه . هو متطيّن بالطين ؟ يركض يفتح عبره ويسد عبره . بالليل وحتى بالنهار؟ البرد ينخر بعظامه حتى يوفر لها الخبز. حالها حالي . قابل هي تختلف؟ مثل ما آنا مجبوره . يجوز هي همه . حظها معثَّر . إذاْ ألومها لازم ألوم نفسي أول شيء ) .
فعلاً كان ثلثي ما ينتج من حاصل الحنطة و الشعير ، يذهب إلى عنابر الشيخ الذي يبيعه ثم يقضي معظم عامه في بغداد يفعل ما يشاء دون رقيب أو حسيب سوى خلف الذي يكتم أسراره.
أما حسون و أمثاله فلا يَسْلَم أحدهم إلاّ على جزء ضئيل لتقتات به عائلته. و من جديد يعود ليستدين البذور للزراعة . الفلاحون يظلون متورطين بالدين طيلة حياتهم . و حسون مدان حتى على وفاء زوجته.
و خلف .. ؟ نفس الشيء .
لو أنها استطاعت أن تقول ذلك ، لولا أنها... لولا الهفوة التي تعرضت لها لقالت كل ما كانت ترصده بعينها .
ليش .. ؟ حتى انتحار بدر .. منو انطاه المسدس ؟ غير حرب ؟ و اشمدريه بسالفة بدريه ؟ ؟ الله يعلم . يجوز اله بيها ضلع ؟ استغفر الله . العلم عند الله . آنا ما ادري . بهاي القرية شليله و ضايع راسها ،. شنهي الفايده من هذا الكلام ؟ أخلي منه شي بجيبي؟)
سعده و لو تعرف كل شيء لكن هي مثل بلاّع ( الموس ) . حتى لو صاحت بعالي صوتها مــن يصدقها ؟ من يتجرأ و يجرّب طول لسانه ؟ لكـــن ( حرب ) عريـــــان حي على الصـــــلاة ... عريان بالظهر ( الأحمر ) و هو ما يفك منها ( ياخه ) .
وإذا أسرّت لخلف بالحقيقة ، ما الذي يحدث ؟ من هو الذي يتحمل القسط الأكبر من الخسارة ؟ يتْحمّلها خلف ؟ لو هي ؟ لو الشيخ ؟
يصعب عليها أن تقر خسارة واحد غيرها .
( و يجوز من راح خَلَف لبغداد . لازم هو الوسيط . حتى يْوَصّلْ ما يرسله عمه حرب لعشيقته " نجمه" ، منو غيره يْسوّي هاي الخدمه ؟ سقطت كرامته حيل ، وصار كوّاد ) .
أحد المرات : عندما أزاح بنفسه تلك الحشمة باستدعائها وسحبها إلى مخدعه دون أن تستطيع الخلاص ، أسرت له النكتة وهي تبكي ، وقبل أن يرتكب فعلته :
ــ ضنّيت غايطك ذهب .
وابتسم لكي يتجاوز الكلفة بينهما ، لكنها ثقلت على فؤاده فتجرأت لتقول بشماتة :
ــ شفتك بالحلم تلبس عمامة أيمام .
وظلت تبكي مصيرها التي هي فيه بصمت . ظلت مستلقية . بينما ظلّ حرب مشغولا بـإعادة ملابسه إلى حشمتها ، عجب لجرأتها. كم كانت تتحاشى رؤيته ؟ كم كان هذا لا يخطر بحسبانه ؟
لكن تهتكه ألهاه كثيرا . فلملمت ملابسها متسللّة إلى الخارج ومضت ببكائها .
أنها تبصق على هذا الكذب و الغش والرياء و الأشياء المُقرفة . إنها بنت متضائلة . إنها خرقة بالية . سَمَلْ بنات ، لا تملك أي شيء . ما أن ترغم على لقائه حتى يتبلد فيها كل شيء .
ـ وسخ .
* * *
في الزاوية المعتمة من حجرتها التي واربت بابها بإحكام ، و كان الليل قد مضى إلى العمق ، ولم تعد تسمع سوى الصخب الذي تثيره الضفادع و الصراصير ، ظلت سعده متلفعة بعباءتها . متكورة على نفسها . و قد توسدت ذراعها . في حين شرع كفّها في الظلام ، يمر براحته المنبسطة على ما تعرّى من أرضية الحجرة ، كأنها توحي إلى حالتها الكامده . أنها تريد أن تعثر عن أثر لحلٍ رغم يأسها الذي لا ريب فيه .
كانت مثل هذه الخلوات تغدق عليها بالهموم و الغلبة . تجعلها تستسلم إلى حالة قاتلة من الرخص و الضياع . فتسرح كأنها تبيح للهموم أن تكلكل عليها . لا تجد في نفسها قدرة على المقاومة . و كان هذا ديدنها في خلواتها. ربما كان مضي الليل الذي يفزعها صمته ، يمنحها نوعاً من الحماية والمواساة . والمساحة الحرة بين أن تستلطفه ، أو انسحاقها أمام سواده . أو مؤاخاته . أو إعطائها الوقت ليمنحها التحكم بحواسها . و لجوئها إليه لتتأمّل ، دون من يتسلط عليها بهذا الكابوس الحقيقي، و استحواذه عليها . ومن يدري ؟ على أنها في الليل أكثر عرضة للاغتصاب ؟ . فهي بكل حال و دون امتلاكها أي طريق آخر ، ملقاة على قارعة الخسائر الجسيمة . و اعتادت على سلسلة من الخسائر. وقد هانت عليها نفسها إلى أقصى حد . صحيح هي لا تدخل نفسها في تأمل مُتَبَصِّرْ ، ربما لصغر سنها و قلة تجربتها ، فأساساً لا تمتلك الرؤية التي تعينها على فهم أسباب غُلبتها . ففي العرف هي مملوكة. بل هي تعرف ذلك . لكنها لو تتوصل إلى إدراك فقدانها تلك الخسائر لكونها : حُقرت في استباحته لها . إلى حد انسلاخها عن كونها مخلوقاً بشرياً .
لكن سعده، بعد أن تريثت و فكرت عميقاً. و أعادت النظر بأُمنياتها ، و ما عوّلت عليه أن تثأر من خلاله ، وجدت أن من الصعب تحقيق ما تصبو إليه ، من خلاص ، أو علاج . و كما ترى و تلمس مما هي عليه من خضوع و خشية من (حرب) . فهي لا ترجو خيراً من أي بشر ، أن يحقق أمانيها على يديه . مثلها مثل امرأة عجوز أفل عمرها ، و تخلت عنها سبل الحياة .
و بعد أن تفحصت الأمر. وجدت : أن ليس هناك من يحقق أحلامها ، سوى أن تتوجه إلى من هو أقوى و أشد بأساً . فتقلدت للأنبياء و الأوصياء بدعائها :
ـ بجاه الزهرة ام الحسين . بجاه أمير المؤمنين . بجاه النبي أبو القاسم، كون هذا النجس يطيح له بعثره . موبغيره ، لا ، بي هُوَّ . يطيح له بمصيبه تهدمه هدم . يعثر بروحاته لبغداد . وحال ما يدخل بدار صاحبتها " نجمه" يلزمه رجلها و يذبحه ذبح النعجة ، و يخلصني من شدّتي . لو حرامي من هاذي الحراميه السطّايه. لو رصاصه تايهه نذر الوجه الله ، يهطره هطره من هطره .
و شرعت تبكي بكاءً مراً مكتوماً .
ـ تراني تايهه اوْ ما عندي والي . و يخلصني من هاي المصيبه السوده.
و شرعت تنعى مصيرها بصوت خفيض .
ـ كون يطلع له واحد بالليل الاظلم و يدرع بطنه بخنجر .. ما يصير ؟
و لم يخطر ببالها أن تشرك خلف بمحنتها . و لا تتوقع منه ما هو قادر على معالجة محنتها .
ـ خلف ما عليه . خلف ما يدري بالدنيا طشّت لو رشّت . المصيبة مصيبتي . يعني معقولة الله نساني؟! حشاه .. الله ما ينسى عبده . لكن خاف القضيه . إطَوّل و انا ماخذني الرهيج من كثر ما يجرجر بيّه ... صايرة ؟ دايره ؟ ما يكول هاي يتيمه ؟ ما يكول هاي امانة الله و رسوله صارت بحظي و بختي ؟ و الله ما أدري .
كانت سعده في حالة يأس قاتل . ومن عدم جدوى هذه الأماني ، و هذا اللوم الذي لا يجدي نفعاً. إنها يمكن أن يلتفت لها ربها ، و لكن هي (طايحه ابّير أظلم و تريد هسّه كبل باجر) . ليش ؟ حتى الله ، استغفر الله ما يطلّعها .
ـ مِنْ كون .. ظُلْمَتْ عليك دنياك حرب ، بيش تطلب هاذي التايهة المسكينه ؟
إنها تريد حلاً مضموناً من ( حاضر الشدّات أبو الحسن علي) . و لا تريد أن تكون أُمنياتها أُمنيات خائبة .
ـ ليش خايبه . لو الله يريد يسويها ما ترهم ؟ ما يصير شمران بمكانه ؟ شمران ما عنده لا زايد ، ولا ناقص . عنده زوجته اوْ مستقر عليها اوْ بس .. ما حاط عينه على غيرها . ما يصير شيخ لو يموت هذا الخنزير النجس؟ إذا صار شمران يمكن ما عنده مالات ابليس .
* * *
مضت على سعده ...أربعة أشهر ، بعد زواج شمران . ولبط شيء ما في أحشائها. و اضطرب قلبها .
عرفت ، بين الشك و اليقين ، أنه جنين . كيف تتأكد ؟ وهل ينبغي لها أن تفرح كبقية الحوامل ، أم ينبغي أن يُكسف بالها ويكون مصدر عار وقلق و شعور بأنها زانية؟ وإذا كان ذلك هو ما ينبغي أن يقال’ هل هي التي قادت نفسها لهذا المصير أم أنها اغْتُصبت غصبا؟ من هو الأب الفعلي من إثنين لا غيرهما؟ هل تتحمل ذنباً عن صمتها أم ينبغي أن تكتم الفعلة حتى يفرجها الله ، و كيف يفرجها؟ لا تدري . لم تُعَيّنِّ ولا ترغب أن تُعيّن . لكن الفضيحة قادمة. العديد من الانتهاكات كلكلت فوقها . إذن من هو الأب ؟ أغمضت عينيها ودمعتا وراحت تستمر بالبكاء :
ـ يتيمه و تايه و ما عندي والي .
لا تريد أن ترغم نفسها على إقرار ذلك أكثر مما هي فيه.. لكي لا يعتم كيفها. أرادت أن يكون لها طفل من خلف من لحمها ودمها0 من فصيلتها الوضيعة المحتقرة .و لم تفلح من تهربها من هذا الواقع الذي يدوي في دماغها .
هي قادمة على حالة محرجة ، فازدادت همومها حجما . وكان عليها أن تعرف أولا : إن كان هذا هو الحمل . رغم قناعتها ، إلاّ أنها تمنّت أن يكون كاذباً ، كم دارت عليها طاق الرحى و طحنتها بالكامل ؟ فهي عاجزة أن تطرد من ذاكرتها تلك الهفوات ، التي وجدت نفسها تنحدر إلى قرارها رغم أنفها.
تسللت عبر الطريق المؤدي إلى غرفة شمران . فهذا الوقت ملائم أن تسرق الإجابة في عمق الليل . ربما حتى يُتاح لها أن تتكتم عليه ، ريثما يفرجها رب العالمين .لاح لها الضوء المنبعث في هذا الوقت المتأخر. هل تقدم على الذهاب إليها في هذا الوقت ؟ ألا تستطيع أن تؤجله للصباح ؟ إنها منزوعة الصبر و عليها أن تتأكد الآن . و إن كان الوقت غير مناسب . إنها تريد أن تسأل ( كرهبايه ) عن هذا الشيء الذي يحدث في بطنها ، فالوقت ليلاً ، وإن كان القمر يبعث بآخر نوره إلى الفناء . هي .. تعرف ... إن ( كرهبايه ) تقضي ليلها لوحدها ، في حين يمكث شمران و بصحبته خلف مع الشحنات لحراسة بيادر القمح والشعير . لاح الضوء الواهن ، فدبت بقدميها ، كأنها مقدمة على أمر جلل . كان الصمت مهيمنا . أرادت أن تدفع بيدها الباب ، توقعتها تغط بنومها.. فتريثت ، و ألصقت وجنتها على الشق باحثة عن ( كرهبــــــايه ) ، ركزت نظرها إلى الداخل وجفلت :
ـــ يا...................ع .
هرولت بخفة خادشة خديها . تعثرت أكثر من مرة ، و أوشكت أن لا يحملاها قدماها إلى حجرتها . قلبها يخفق تحت حنجرتها ، وصدغاها ينبضان ، أذناها يدقان بهما مائة هاون .
و عند محاولة دخولها من باب غرفتها ، ارتطم جسدها بالجدار بكل عنف .و أجهدت نفسها لكي تدلف إلى عمق حجرتها. أطفأت الضوء و دفنت وجهها باللحاف وغمرها شوق حقيقي إلى زوجها . لكنها لم يستقر لها قرار . ظلت مترددة بين أن تراقب وسط الظلام ما تؤول إليه الأحداث. و بين أن تحيد عما يجري . أي خيار تتبع ؟ هل تظل خافية رأسها و ترتجف ، أم تطل خلسة و تراقب ؟ . ظلت تواصل مراقبة باب غرفة ( كرهباية ) عبر الظلام ، وقلبها يخفق بشدة .
ـ يمكن بلت على نفسي........... لا هذا دم !!!!
كانت تتمنى أن تجد لجانبها أحداً . هل هذا يجب أن يكون ؟ هي لا تعرف . رأسها دائخ . لصقت وجهها بين باب غرفتها و الجدار . ما زال الضوء الكابي كابياً ، كأنه يتستر على ما يحدث . ثم تحجم عن متابعة ما يدور في بالها عما يجري هناك . كم هي بحاجة إلى خلف ؟
ـ هذا دم !!! هوايه دم و بطني تْحوس . و الله أفرح من يطيح . آنا اعرف يا هو أبوه ؟
كانت أفكارها تتلاطم . كأنها تكتشف ما اكتشفت لأول مرة. كل شيء يجوز لكن : أيحدث مثل هذا؟ . إلى هذا الحد ؟
كم هي بحاجة لزوجها كي تتكئ عليه ، وتلوذ به ؟ إنها بحاجة إلى من يحتضنها لكي تتجاوز هذه المصيبة . لكي تجتاز هذا الليل الذي اطمأنت أن تحتمي فيه . و نسيت أن كل شيء جائز أن يحدث تحت جنح الظلام . ( يعني ماكو واحد أمين تلوذ بيه) .
* * *
لكن خلف طيلة مكوثه مع قطاف الزرع . لم يكن خال البال هو بحاجة إلى مَن يبثه لواعجه. رغم أن مشاعره بقيت كالعادة دفينة . حتى أشواقه لزوجته هي الأخرى بقيت دفينة .
أمعن خلف نظره في هذه الكتل من البيادر المترامية وعلى مسافات قصية، تتطلب أن يتفقدها باستمرار . بيادر أتعبته من تفقدها المتواصل ليلا و نهاراً .
وحسد شمران على ذهابه نهارا وظل حرمانه من مشاهدة زوجته يثير فيه لواعجاً تستدعيه أن يراقب كل شيء ليربطه بإحساسه بالحرمان . ونسيان كونه له زوجة ، جدير به أن يلتقيها . كل الأشياء التي يشمّها تدفع بعواطفه إلى سعده. رائحة السنابل الناضجة و الجِلٍ . أصوات الصَراصير و ( تَرْبَشَةْ أبوالكوربان ) (*) الباحث عن قرينه . وقبل هذه الليلة، مرت الليالي الربيعية ، دون أن يغــــادر خلف محلة البيادر، ينصت إلى همس الطيور في عمــق الليل . أشياء لا تعد و لا تحصى ، تذكّره بذلك الشعور الذي لا يعرف كيف يُعبِّر عنه .الطيور التي تتبع بعضها بعضا في النهار ، واختفاء أُنثاها في عمق الحقل فيروح الفحل يطلق صوته بحثاً ويتواصل النداء دون هوادة . و ينشغل خلف بهذا الذي لا يعرف بماذا يسميه؟ لماذا تكمن الأنثى فيتأجج قلب فحلها . لكن .. ما أن يعثر عليها حتى يحلق بعيداً و يظل ينتظر ، حتى إذا يئس عاد أدراجه إليها . وأصوات الجنادب و الفراشات في النهار، الدائبة بأجنحة هادئة ، كأنها مثقلة بحجمها العريض .
في الليل ينصت إلى ما يشبه الهمس . إنها محادثة قصيرة خافتة .
حتى الطراد بين الخيول المتحررة من أعنتها ، و قفزات بنات عرس و نقيق الضفادع ، ونداءات بنات آوى وابتسامة النجوم . بل و حتى التفاف الأفاعي على أشباهها أشياء تدفع بإحساس مبهم للاسترخاء و حكاية مع زوجة تستمع إلى منادمة زوجها . جنبا إلى جنب وعلى فراش وثير مثل فراش " نجمه " حشا سعده من هاي التشابيه ، بعيدا عن البعوض والبرغش وقش الحقل وسفيه والخوف من ألأفاعي ,و العقارب. هو لا يريد فراش وثير مثل فراش نجمه الوسخ . هو مستعد ينام على جرد نظيف مع سعده . و يقبل يأكل خبز شعير و جرعة ماء ( بس كون زوجته ثوبها موش نجس) .
إحساس غامض لا يدرك له معنى . لكنه يقوده بإغراء خفي ، ليحن إلى زوجته برغبة عارمة تحرّض القلب والجسد لامتصاص كل الصبر. في ساعات ألْهَبَتْ شوقه .
سيظل يحلم بليله لا سلطان فيها لأحد عليه . سوى تلك السخلة العزيزة التي تنط ليلاً و نهاراً. التي تدبُّ أكثر من أي واحدة من نساء الشيخ ، إنها هي الأخرى بدأت تنشغل بهموم لا يعرف كنهها . قد يكون السبب استغلال سخائها بنفسها. كم هناك أشياء لا يدركها ؟ كم هو بحاجة إلى قدرة على امتلاكه الفطنة و تفسير الأمور؟ لكن ذلك من المؤكد سوف يسبب له وجع الرأس . من الأفضل أن يدع الأمور تسير على هواها . من هذه الأشياء التي لا يعرف منها إلا قدرة ربها ، والتي تنخرم عن جمالـــها . حاول أن يتذكر ... كيف تحكمه الأمور إلى هذا المكان .
وأعاده همس شمران إلى وعيه :
- أتمنى يا خلف ...
: ــ عونك محفوظ .
-: لا...........ما عندي شيء .
و تطلع خلف إلى تلك البيادر المترامية التي يتفاوت عليها قوة انعكاس ضياء القمر . كتل شفافة العتمة ، مترامية ، يغرقها الضوء الشاحب المهيمن والساهر بجوار أهل عالم الليل كتل بقدر رؤياه . ..يـ.............. ـه ..حتى ينقطع النفس . و دوس وذرّي ، وقسَّمْ، وهات الجِمال وتحميلها بحصة الشيخ إلى عنابره لحين تسويقه .
فردد مع نفسه :
ــ كل هذا؟ واحد.. اثنين .. ثلاثة..يـ.. .........ـه لمّا ينقطع النفس.
...........ووزّع يا خلف ..وعبء يا خلف .. و انطر يا خلف . وراقب الفلاحين والفوّادات (33) ولاقطات السنابل والصبية الذين يشوّطون سنابل القمح . و حننذاك ينهد رباطه ، مثل ثور عمه حرب . هذا ما يظنهم يقولونه ، بأن احترامه بقرنيه . هذا نباحهم . يجوز يقولون ذلك . هذا ضراط واحد نايم . و لو هو ما سمع أحدا يقول . لكن بعض نسانهم . يسمع لغطهن .
* * *
وتململ شمران متأوهاً . و عجب من بقائه هنا . هل هو أحد الشحنات ؟ أم شيخاً يحل محل أخيه حرب عند غيابه ؟ أليس هذا ما ينبغي أن يكون ؟
ثم لاح له انتظار زوجته كما هو حالها أمامه ، بثوبها الكشميري ، و الأزرار الذهبي المتلألئ على ضوء (اللوكس) ، متكاسلا مشعّاً على صدرها . و من فوقه يشمخ عنقها .
كل مــا فيها يبتسم رغم ما حدث بين والدها و أخيه و أخذها من بين يديه عنوة : ولاحت له تلك العينــــين و الخدين والفم ، و تلك الأسنان اللؤلؤية . الصناع *و ( الديرم ) ، و الشعر الحريري ، وذلك النضح من العطر الشذي .. والحفيف المؤنس .
وظل يتقلّب يميناً و شمالاً و يستلقي على ظهره ، و تأوّه . إنه لا يكاد يحصل عليها حتى في النهار . هل هذا واجبه أن يمكث ليله كله هنا ؟! ما معنى هذا ؟
على كلٍ .. لازم ما يخلي بخاطر شقيقه . لكن .. ما معقولة يترك زوجته وحيدة بهذا الليل .
(دقيقة وِحْدهْ ، ما يستطيع يتركها . شمران لو تتهافت عليه بنات الناس كلها .. و الله مايبدِّل ( كرهبايه) بأجمل وحده .
هل كان شمران محقا ًفي ابتعاده عن بنات القرية ؟ هل هو ما زال يفكر بما حدث له من خيبة ، جراء ما حدث لبدرية ؟ يعني قضية بدريه ( ليش دوم تتردد براسه ) ؟
قد لا يمتلك الرأي الواضح ، حسب انطباعه ، وقد يكون نعم . لاعتقاده انه لا يليق أن يتزوج بابنة قريته ممن دون مستواه . فهم حسب العرف الذي يبنون أهله أحكامهم عليه ، هم يترفعون عن هذا المستوى و ينبغي لأمثالهم أن يتخذ زوجة من عالية القوم أو المدينة .
أمّا كونه قد عزف عن بناء علاقة مع أية ريفية - عدا رغبته ببدرية آنذاك - أو شبيهة بتلك التي استفزت إحساسه .. ما حدث للفتاة التي مال قلبه إليها ، فوجدها بين يدي أخيه. إنه لا يرجح إلاّ رأي أخيه لكونه أكثر رجاحة من عقله. ربما ما كان حظه موفق مع فتاة جديرة به .
مثل هذه و حتى الأخريات ، يمكن ، بل كان يجب أن يتم بناء علاقة لقضاء الوقت ليس غير .
إن ما تكون جديرة به ، هي أمثال زوجته ( كرهبايه) . أو واحدة حضرية كزوجة أخيه . التي تَفْرِضْ هي بنفسها طريقة التعامل معها على أساس أنها من منشأ أفضل بمقاييس عديدة ، من حيث الملبس . و تربية الأولاد . و طريقة تعاملها مع زوجها ، وحسن صنع طعامه . واقتراب زوجها بموجب زواجه منها لتطعيم نسله من بنين و بنات، ينصهرون بحياة المدينة التي تختلف عن القرية بكل شيء . و الحافلة بالحدائق و الأسواق والشوارع المعبّدة بالإسفلت ، والمنوّرة بالمصابيح الكهربائية ، و المدارس و أشياء كثيرة . وفي مقدمة كل ذلك انتظاره عند غيابه عنها و إظهار اشتياقها إليه بترحيبها الحار.إنه يريد زوجة من هذا القبيل . تتفاعل مع لهفته إليها كأنه كان في طرف الدنيا ومقَتَولَة بالشوق إليه .
وحين ظل يقارن بين زوجة أخيه و زوجته ، لاحظ أن الأفضلية من حيث الحُسْن لزوجته . وهي قادرة على أن ترتقي ، وربما تتفوّق على الحضرية ، التي لا تمتلك أفضلية على كرهبايه ، إلاّ بضخامة الجسد المترهل من السمنة . و نصاعة أطرافها . و قص شعرها القصير ، كمـــا يسمى في المدينة على ( الموده) .ثم قدرتها على الخياطة وانحدارها المدني .
إنه يرجو أن تتهيّأ له الفرصة ليقربها إلى تلك الزوجة التي تترفع على زوجات أخيه . و بالتأكيد سيؤنسها رقة زوجته وحسنها . وربما سترافقها إلى المدينة لقضاء بعض الوقت . لاسيّما وأن صفية الحضرية تميل إليه و تُطْعمُه . وتأتي له بحاجيات عند عودتها من المدينة وكذلك لزوجته .
إنه لم يعثر على ما يندم من أجله بزواجه منها . بل أن هذا الزواج يعمق حبه و إخلاصه لأخيه الحبيب . فلولاه لما توفرت له الفرصة للحصول على هذه اللقطة الثمينة .
و إن كان هذا الذي يقال ، لم يكن بديلاً عن حبه لزوجته. لكن بالتأكيد سيؤول كل ما يملك عمه بريسم لها . ومن الواضح . أن أخاه كان يشغله مثل هذا الأمر : على أن شمران: سيكون كل شيء في متناول يده .
ولم يبخل بشيء من الآثاث التي بهرته هو . فغرفة شمران لم تستحوذ قبل زواجه على ( الكنتور) و ( الـﭽرباية ) و الفِرِشْ الوثيـــــرة و ( اللوكس ) والراديو الذي هو شبيه بالذي تمتلكه زوجة أخيه الحضرية . و قد خدمتها سعده و آنستها و بدأت تدربها على التطريز و التخريم . و بعض الصناعات لأشياء يوفرها شمران عند ذهابه للمدينة . و أحياناً عند فراغ سعده من شغل النهار تقترب منها لتبعد عنها ما يصيبها من ملل عند غيابه .
ــ أي بلاء هذه البيادر ؟ أي غضب انصبّ على رأسي؟ فارت روحي خلف ......
- ;عونك محفوظ ..............
- ; أروح خلف ..
-:بحفظ الله محفوظ . توصل بألف سلامه محفوظ....
ردد خلف مع نفسه :
ـ إشْ معناها شمران يحرس؟ خَلَتْ القرية من الشحنات ؟ لو آنا ما موجود؟ هاي بالله موش عجيبه؟
الواجب شمران شيخ ما يبات هنا. بس الشيخ يجوز يْعلمه . يعني يدربه؟ و لكن أنا ما مقتنع . إيعلْمه شنهي، ايعلمه ؟ هاي ما يشيلها راسي .
* * *
منذ وقت غير يسير ، كان القمر قد جنح كثيراً باتجاه النصف الآخر من السماء إنه ماض رويداً ، رويداً إلى الأفول ... لماذا تزداد نجمة الصباح تألقاً عند أُفول القمر؟ هل هي على نقيض معه ؟ كانت النجمة المتألقة تطل برأسها كأنها كامنة حتى أُفول القمر، بضيائها المشع على جوانبها فيسترسل مثل خيوط متوهجة ، كأنها تبتهج لتنفرد بضيائها وسط الظلام الذي بدأ يسود .
رآها تتطلع من خلفه وسط سماء أبان جفول بعض نجومها ، فمضت منذ حين ، قسمٌ يضمحل لَمعانهُ و يرحل ، وقسمٌ يبقى يشع . سماء فسيحة تسبح فيها النجوم الساهرة طيلة الليل ، وسط هذا السكون الذي لا يَخْرمه سوى أصوات خافتة متقطعة ، لطيور أو هوام ربما تحلم .
يلوح انتقال النجوم التي يراقبها كونها الدليل الذي يتوضح له إمعان الليل بالانحسار . و حتى تركن كواكب الليل إلى قبائلها لترقد . لا يدركها طارئ إلا ...وحكم عليه أن يرحل إلى مخدعه . كل ما في السماء .. إنما يرتبط بحجم محسوب له نصيب من الحقوق .
* * *
شمران يرهقه الضوء . اعتقادا منه أنها تفضح تسلله في سطوه إلى مخدعه . حاله حال القمر الذي تابع مضيه باتجاه أطراف الطريق حيث تسير خطوات كحيلان.. جنباً إلى جنب مع جنوحه كأنهما يسيران معاً باتجاه الأفول .
ربط حصانه في المربط القريب إلى المضيف مشى محاذياً الجهة الخلفية من الدار، حـــيث تنزوي غرفته . و تزدحم الأخريات لائذة بعضها ببعض . كان قد وصل إلى هناك متلصصا مخافة أن يراه احد ، أو خجلا من أن يراه ، وقد جاء من اجل زوجته ، و عالج الباب ليمر من خلاله إلى غرفته ، حذاء الجهة التي انتصبت فيها حجرة خلف . ما زال الضوء الخافت ينبعث من خلل .أراد مفاجأتها وجها لوجه . بزينتها . بحلاوتها . بجسدها الذي ينفح عطرا. الذي هو ملك صرف له ، خفق قلبه . بذراعيها و دفئها ، و فراشها الحضري الوثير . عامل الباب بهدوء لعله ينفتح . هل تتوقع مجيئه ؟ ما هذا لا زالت يقظة ، خربش الباب بأظافره . خربش مرة ثانية ، سمع صوتها :
-ـ بشت ...بشت.... هل يموء..........؟
:- ميو...ميو
- بشت....بشت
خربش مرة أخرى
: - ميو ............ميو..........ميو
تمنّى أن يأخذها بين ذراعيه و أن يتلقفها .. سمع خطوات من الداخل ، تماسك أن لا يضحك :
-ـ ميو............. خربش ..
اقتربت الخطوات ، خفق قلبه 0تهيأ لاحتضانها . ندت عنها صيحة خافته مرعوبة ، وأوصدت الباب . لكن شمران اقتحم الباب ليطوقها. بينما هي تلوذ و تخفي وجهها.
فوجئ بأخيه حرب عاري الصدر و يردد :
ــ ها....ها .. مِن هو، مِن هو..ها.. أنت؟
فرد على حرب دون أرادته :
ــ أنا ؟!
أجاب دون وعي .
ظلت عينا حرب تُمعنان النظر إلى وجه أخيه الذي بدا منكمشاً مصعوقاً غابت عنه ملامح الحياة ، و نظرات ( حرب ) تركز علـــى الوجه المسلوب الإرادة .
: ــ ليش تركت مكانك؟ ؟
وصمت ......
لم يتجرأ شمران لكي يقول شيئاً حتى في مواقف أكثر ملائمة من هذه . أن يجد الكلمة المناسبة التي يقولها. لقد كان دائما يخشاه و يهابه. وحرب يعرف ذلك جيداً . لا أحد يتجرأ أن يفتح فمه من الرجال إلاّ بأمر منه. ولذلك لم يمتلك شمران الجرأة أن ينسحب ومن ثَمَّ إلى أين؟ لا يدري . فهو متبلد لا يملك عقلاً يقرر . أو يفكر فيه .
كان في تكوينه الذي ألفه مع أخيه ينتظر أمر الانصراف منه دون أن يقاد من طرف آخر . بيد أن ( حرب ) صفع شمران بحلٍ ، لا يوجد غيره ، فلم يتوقعه، ولم يتهيأ له :
ـ أنا قبل زواجك كنت أُحاول إقنع بريسم ،حتى أعثر على العذر الذي آخذ ( كرهباية) حرمه إلي .. أخيراً أنت ؟؟؟ . وما دمت اطّلعت على هذا الشي ، لازم تنفصل عنها وما يحق لك تدخل هنا.
وظل ينتظر منه أن ينصرف من أمامه . ظل ( حرب ) يتمعن كأنه قد ضاق ذرعاً بوقوفه .
شمران دايـخ ...... . ..
* * *
أطل رأس رابع كأنه مصاب بصرع... رأس سعده ، التي رصدته، بجسد تحوّل كله إلى عين ثاقبة ، حين مجيئه وحين انسل مخذولا مغلوبا . حيث قادته قدماه وسط القرية. ثم تحوّل جسدها بكامله إلى إذن قادرة أن تتحسس ما يمكن ، أن يسفر عنه هذا الصمت . ما الذي يقبع خَلْفَ هذا الصمت ؟
منذ وقت مبكر تابعت سعده مراقبتها لباب غرفة شمران . هذا المجيء صعقها . لم يَدِرْ بخلدها هذا المجيء المفاجئ . واصلت سعده متابعتها من خلال فجوة ببابها الموصد ، بقلب يتصاعد وجيفه . و بطن يعصف فيها الألم ، و الدم ينزف غزيراً.. قلبها تتصاعد ضرباته إلى حد الترقوة ، ذلك الانسحاب المذل لشمران .
لم تألف تلك الخطوات البائسة المتهالكة ، حيث تقوده نحو الباب الخارجي، المؤدي إلى فناء الربعة .
ماذا تحدس سعدة ، كونها امرأة تتنبأ بما لم يدركه الرجال؟ أكارثة ما متوقعة ؟؟؟ أهي مصيبة لا تعرف نتائجها؟؟؟ أهو هروب ؟؟؟ و إلى أين ؟؟؟
كانت تسمع بكل وضوح : قوائم تدك الأرض بقوة غير مألوفة . و صهيل يجلجل ، هز ليل ?