قصة قصيرة
حين توقف المطر
صوت الموسيقى الهادئة ينساب عبر مكبرات الصوت في الطابق العلوي من نادي الجامعة المستنصرية، ملقيًا ظلالًا وردية على الجدران المطلية بلون باهت، بينما تناثرت أضواء خافتة فوق الطاولات الخشبية الصغيرة.. الأضواء تتراقص على السطح المصقول للطاولة التي تفصل بينهما، لكنها بدت تتلاشى كلما طال صمتهما.
كان الهواء مشبعًا برائحة الشاي والنعناع واختلطت رائحته بأصداء ضحكات بعيدة تتسلل من الطابق الأرضي حيث يزدحم النادي بالطلاب والطالبات، الكلمات تموج في صدره لكنه خشي أن يطلقها فتُفسد ذلك الهدوء.
مرَّ الوقت ببطء وصمتٌ ثقيلٌ احتل المكان، لكنه ممتلئٌ بأحاديث لم تُنطق.. تكررت نظراتهما المرتبكة وكأن أعينهما وحدها تتحدث بلغتها الخاصة، كل شيء ساكن، إلّا تلك النظرات التي همست بأسرار خفية لا يسمعها سوى قلبيهما.
أمسكَ كوبه بيد باردة رغم دفء المكان، رفعه إلى شفتيه دون أن يشرب، وكأنه يبحث عن كلمات تهرب من لسانه.. تردد قليلاً لكن إحساسًا داخليًا قال له إن الفرصة لا تحتمل التأجيل.
ألقى نظرة خاطفة نحو النافذة الكبيرة المطلة على شارع فلسطين، رأى المطر ينزلق على الزجاج في خيوط طويلة، وبدا له أن السماء تهمس بأن بعض الكلمات لا تحتمل الانتظار.. شعرَ بثقل اللحظة الراهنة وكل شيء حوله يترقب كلمته التالية.
فجأة كسر الصمت صوتٌ رقيق خرج منه ممتزجًا بالموسيقى التي تعزف:
-أحبّكِ.
ارتجفت يدها التي تمسك بملعقة صغيرة فسقطت في الصحن ودوّى صوتها كدقة قلبٍ أخرى في أذنيها!
صمتت وأغمضت عينيها للحظة.
لم تكن بحاجة للبحث عن الكلمات، فدموعها قالت كل شيء.
عندما فتحت عينيها رأته بصورة لم تعهده بها من قبل، لم تعد هناك طاولة أو نوافذ يزحف عليها المطر ولا حتى أصوات تصعد من الطابق الأرضي، فقط قلبان ينبضان بإيقاع واحد، شعرت أن تلك الكلمة البسيطة أزاحت مسافة بينهما امتدت لأربع سنوات.
وبدون أن ينطقا بكلمة نزلا السلالم الضيقة معًا، خطواتهما تملأ الممر المؤدي إلى خارج النادي..
توقف المطر لكن أثره بقي على جدران النادي وعلى الساحة المقابلة له، كما بقيت كلمته محفورة في روحها، سارت بجانبه وقلبها ينبض بخفة تخشى أن توقظ الحلم الذي تعيشه.
حين لامست يده يدها بخفة لم تسحب يدها بعيدًا.. مضيا معًا تحت سماء موشحة بالغيوم، وكأن الكون كله يحتفل بذلك الاعتراف الصغير الذي غيَّر كل شيء.
انتهت.